عاد من جنازتها دون أن يذرف دمعة واحدة .. دخل شقتهما القديمة .. وأغلق الباب على نفسه ، كان يعلم أنه أكثر من يحزنه فقدها ، ولذلك كان غريباً ألا يذرف عليها الدموع .. ولكنه كان يوفرهم لأمر أكبر من ذلك.
قرر عدم إخبار أحد بما ينتويه .. اتخذ قراره بالعزلة ، أغلق باب الشقة ودخل غرفة مكتبه .. أخرج كتبه الصفراء التى أقسم بعظمة الله لجده عن جده الأكبر ألا يستعملها أبداً !! .. قرأ بعض صفحاتها المهترئة .. لمعت عيناه .. نهض وأحضر كل ذكرياتهما .. صورها .. ملابسها .. أوراقها .. بعض شعرات لها كان يحتفظ بها ..
و ... واحرق الكل فى إناء ..
أحضر كل أصارى النباتات وفرغ الطمى فى البانيو فى الحمام ، ووزع رماد المحروقات على الطمى واحتفظ بثلثه فى وعاء ثم صعد فوق البانيو وجلس ...
وبدأ بالبكاء .!!
بكى كل ماحتفظ به من دموع منذ علم بموتها ..
بكى حتى أذاب الطمى مع رماد المحروقات ..
ثم أخذ يُلقى بتعاويذه فى هستيريا ..
وكأنه الشيطان.
ونام فوق الطمى يغمره العرق حتى الصباح.
***
أخذ يومياً يسقى مافعله بشىء من الرماد مع كثير من الدموع ... حتى ظهرت أول نبتة ! ....... "رأسها" !!!
ظهرت رأسها من الطمى .. فى البانيو .... فى الحمام
أخذ يضع كفه فى حنان على شعرها .. ويتلمس عيناها ... ثم ظهرت الرقبة ومع الصدر وتكون القلب ، اختلجت عيناها ... فسارع باحضار شيئاًَ يسترها فطوال عمرها كانت شديدة الحياء حتى منه .. وهذا ماجعله يرفل فى حبها.
أخذت تتكون وتتشكل أمامه .. فى ظل تعاويذه ورماد ذكرياتها ودموع عينيه .. أخذ يجلس معها يحكى لها كل تفاصيل حياتهما .. وكيف كان حبهما .. ومشاجراتهما .. ولالها .. وحزنها .. وغضبه وثورته ولطفها و .. و..
كيف إلتقيا وكيف ذابا .. أول كلمة ، وأول ... وأول ...
وفى يوم كئيب قالت له: - كل ماحكيت جميل ، ولكنى لاأشعر به !!!!
نظر لها بصدمة كبيرة وشهق : - ماذا تقولين ؟؟؟!
أجابت : أصارحك بالحقيقة .. لاأشعر بذلك .. نعم أتذكر كل ذلك ، ولكن كأنى أحلم بشخص آخر .. أنا لست هذا الشخص .. أنا لم أخرج يوماً من هذا الطين !!
صرخت متألمة: - هذا الجسد لم يعايش ماتحكيه .. مع وجود الذكريات هنا .
وأشارت بألم إلى رأسها.
صمتت فى تردد .. ثم استجمعت شجاعتها لتضيف : - أنا .. حتى .. أرى بعض هذه المواقف شديدة السطحية وكأنكما كنتما طفلين بعقول ...
وأطرقت أرضاً.
تراجع هو مصعوقاً .. نظر لها فى عصبية وتوترت أوتاره وكرر كأبله : - ماذا تقولين ؟؟ .. هه ماذا تقولين؟
تشجعت وكأنها ستخرج من دائرة سلطانه : - أنا لم أعش تلك الحياة ولا أشعر بها .. وأنت تعاملنى كما لو كنت تعامل عصفورنا القديم .. أقصد عصفوركم القديم .. أتذكره .. ذلك الذى مات وحيداً فى قفصه !
نهض كالشيطان ولطمها بكل قوته وهو يصرخ : - إخرسى !! .. أنا خلقتك!
قالت وهى تأن : - الله هو الخالق.
صرخ بمرارة : - لقد كفرت بالله مع تعاويذى وابتهالاتى إلى الشيطان من أجلك .
عاندت : - بل من أجلك انت !! ومن أجل سعادتك الشخصية. أنا سأظل هنا دائماً ، لن أستطيع الخروج أبداً ... أنا بين الناس ميتة.
وانخرطت فى البكاء.
نظر لها وانقلبت سحنته وهو يردد .. : - ولا كلمة شكر بعد اعتزالى الكون من أجلك . انعقد حاجباه وأضاف :- أنت تستحقين القتل .
جذبها فى قوة حتى أنه اقتلعها من الطمى فى قوة وجذبها فى قوة عاتية ليدفن رأسها فى المرحاض !!
شهقت .. شهقات متتالية .. اعتصرها الألم ... جن جنونه أكثر .... لمعت عيناه .. وابتسم الشيطان .
فجأة لمست يدها المجرفة التى كان يستخدمها هو فتشبست بها وطوحت بها فى قوة
ثم .. انتهى الضغط على رأسها !!!
نهضت لتجد المجرفة مغروزة فى عنقه والدم كالنافورة .. نهضت متثاقلة وقد أرهقها المجهود الهائل .. أصبحت كورقة الشجر الذابلة التى اشتد اصفرارها .. زحفت إلى مكان غرسها .. ثبتت نفسها .. بدأت تشهق .. جذبت وعاء الرماد وذوبته وبدأت تشرب .. كادت تختنق ... سكبت على جسدها وفى الطمى !!
إزداد جلدها تحرشفاً معلناً رفضه للحياة ..
ومع آخر شهقاتها تذكرت أن السر كان فى دموع عينيه .